ها هي عدالة السماء الإلهية تجازيك ما فعلته.
بني الحياة مؤلمة وقاسية أحيانا لكن لا يجب أن تجعلها تنقلب عليك.
الحياة قاسية و قساوتها قتلت كل شيء جميل بداخلي، لم تبقي على أي شيء، و قد قتلتني معكم و أنهكتني، وحطمت كل جزء حاول الالتئام بداخلي يوما.
أنت صغيرة جدا على أن ترحلي الآن.
(تقمُّصُ ظمياء الطود ، حيواتها السابقة ،كم مَرَّة ماتتْ قتلاً)
.. ، وكانت تحب الكزبرة ،أضاف برجاس،وكان زوجها ثعلبا في الأناضول،وسلجوقيا أيام المماليك،ودرزيا أيام ديغول ..ومن أسمائها :أروى المعمر،ظمياء الطود،سافو بنت رومولوس ..وكان اسمها لميا بنت العَرَّاد يوم فصلوا رأسها بمنشار بادح .وفي بصرى الشام راودتْ راهبا غنوصيا ، عن نفسه، عشرين عاما،وقد عاشت في شهبا خمس سنين ثم قتلتها أمُّها ولما تزل طفلة : رأتها تأكل من طنجرة نحاس ثعابينَ مذبحة،مسلوخة ويكدمُ بعضُها بعضَها.عرفتْ انها هي ، قتلتْها في الليلة ذاتها:خنقتْها وهي نائمة.غير أن برجاس يشك في أن الأمَّ رمَتْ بنتَها في بئر هورا وأنها عادت لتراها أمامها تمضغ الخرُّوب صامتة، ونفى ،في مضافة ناهي،أن يكون المبروكي هو الذي لفَّ أخته في خرقة وتركها للضّباع شرق رُجْمة العبد في رُقَّة المقرونين.لكنه أكد،وهو مَن هو، أن رجمةَ العبد قبرُ جلمود ، أخيها التوأم ، لأن ظمياء الطود ،وفي جميع أجيالها،لم تأت إلى الدنيا وحدها.والجنِّي الذي قُتلَ غيلةً والذي،قيْلَ،يظهر في الليل،يفردُ عظامَه وينتحبُ،ثم يهيم بين رجوم المقرونين ..لن يخوض حكايته لأنه ،هو،برجاس،لم يفهمْ ،بعدُ،الرابطَ بين الحكايتين.فانطلقتْ صيحات الإعجاب من جميع الحاضرين ،قدَّروا تواضعَه،نهض ناهي وقدَّمَ قهوة مُرّة لبرجاس . تناول القهوة ثم هزَّ الفنجان وأعاده .وكي لا يشربَ أحدٌ من الفنجان ذاته بعْدَ برجاس،هوى ناهي بالفنجان على بلاطة الأرض المنحوتة في الصخر،فابتهج الحاضرون لهذا التبجيل،أطبقَ نايف علبة التنباك المفضضة،بلَّلَ الورقة بطرف لسانه ، لفَّ سيجارة وقدمَها لبرجاس ،ونهض فضلو فأولعَها ،ومن باب المضافة المفتوح لاحتْ قناديلُ شهبا كأنها معلقةٌ في الفراغ ، شحَّتْ الكلمات حتى فاض الصمت،فهُمْ يصمتون إذ يصمتُ ،وهو،برجاسُ،يروي ولا يفسِّرُ،يلفظ الكلمة موجفا قلوبهم ،وإذ يتوتر الإيقاعُ،أو يحتدمُ ،يصمت بَغتةً ،حابسا أنفاسَهم كالطاغية ، شابحاً أرواحهم كالغسيل.
― الكاتب السوري فرحان ريدان، رواية خفة ُ أنجُم
.. ، ولها أيضاً ، على جانبها ، بَكَرة معدنية سوداء بحجم الصاع وضعوا فوقها سيراً جلدياً عريضاً ، ثبَّتوا طرَفه الآخرَ في جرار زراعي فوق اسطوانة معدنية دوَّارة يضبطُ سرعَتها محركُ الجرار نفسه .ويُلقّمون هذه الآلة حجارة ً بيضاء في حلقها المخروطي الكبير ، فإذا اشتغلَ محرك ُ الجرار بدأتْ هذه الآلة المرعبة بطحن الحجارة أو تكسيرها إلى حصى فينبعث غبارٌ ثقيل شاحب يرتفع بطيئاً ثم يهبط فيغطي وجوهَهم وأوراق الأشجار وبلاطات الرصيف .
ورأيتهم ينقلون الحصى في عربة ذات عجَل واحد إلى ورشة بناء مجاورة تضجُّ بالحركة والغبار ، وإذْ صرت ُ بقربهم توقف الشابُّ الذي يدفعُ العرَبَة َوأفسحَ لي ، فشكرتهُ وأنا أنتقي مواضع قدمي خشية أن أتعثرَ بقضبان الفولاذ وأسلاك الكهرباء الخضراء ، ولكنني توقفتُ لحظةً وأنا أرى أن الشخصَ الذي يحمل الحجارة إلى حَلْق الآلة امرأة . وإنها شابة بثياب سوداء جَلّلها الغبارُ الأبيض ،فنسيتُ نفسي وأنا أتابع حركتها الدائبة بين كومة الحجارة وحلق الآلة وسط هذا الضجيج الذي يسبب الدوار ، ولم أفطن إلى الغبار الذي دخل رئتيَّ مثل لوثة لاذعة لها مضاء الطعنة المباغتة .حبستُ أنفاسي في منتصف الشهيق وأنا أشعر بوخزة قصيرة وطَعم راسب كيميائي يلتصق بالرئة ويسُدُّ المسام فابتعدتُ إلى رصيف قريب وبدأتُ سعالاً جافاً وخانقاً ومتصلاً ، وحين هدأتْ رئتاي نظرتُ إلى غيمة الغبار مُشفقاً على المرأة التي كانت في تلك اللحظة تحمل الحجارة بيديها وعلى صدرها مُقْبلة تجاه الآلة ،فلاحظتُ أنها تحمل شيئاً على ظهرها ، اقتربتُ قليلاً وانتظرتُ حتى أدبرَتْ فانقبض قلبي وأنا أرى طفلاً في جراب قماشي مثبت على ظهرها ... كان الطفل نائماً يغطي وجهه الغبار ، ولأول مرّة أذهلُ عما حولي إلى هذه الدرجة ، فقدْ مشيتُ إلى موقف الباص كمن يمشي في نومه ووقفتُ بين المنتظرين ولم أنتبه لصديقي الذي كان بينهم والذي أخرجني من شرودي : صباح الخير . ولمسني على كتفي بخفة .. فأجفلتُ .ثم مددتُ يدي وصافحته صامتاً .نظرتُ إليه بعد برهة وقلت: تعال أريك َشيئاً ، تبعني دون أن يقول شيئاً ، وإذ انعطفنا تجاه الشارع وبانت الكسارة وغيمة الغبار توقفَ وقال : إنها معلمة ، أقصد كانت معلمة .سألته إن كان يعرفها فقال: هي زوجة راشد . قلت : راشد مَن ؟
قال :راشد العاقل . سألته : الرسَّام ؟ أجاب : نعم . قلت : وكيف يتركها تعمل هنا ؟
همسَ لي: قبْل عام كان معرضه الأول وقد رسمَ في واحدة من لوحاته حَمَلاً يطاردُ قطيعاً من الذئاب.
― الكاتب السوري فرحان ريدان، قصة مضاء طعنة