تحميل كتاب كنائسُ النّقد pdf الكاتب عبد الدائم السلّامي

هذا الكتاب لا يملك إلا نواياه.

«نوى» (وانْتَوى أيضاً) فعل لا يُحيل على الماضي وإنَّما هو فِعلُ مُستقبلٍ، فِعلٌ مُشرَئِبٌّ كيانه إلى الآتي، وله ميزتان: لا يستقيمُ فيه البنإ للمجهول إلّا بعد التصريح بهِ لفظاً أو كتابةً، ويستحيلُ أن يعوَضَ فيهِ شخصٌ شخصاً آخر، أي لا يَستطيع أن يَنوي أحدنا شيئاً بدلَ غيره (وهو بهذا ِفعلٌ مسؤول ومحميٌّ من الانتحالِ). ولو طلبتُ الدِقّة في الوصفِ قلتُ إن «نوى» ليس «فعلَ عملٍ» وإنَّما هو «فعل تهيُّؤ للعملِ» وقصدٌ لهُ لأن النوايا المُحايِدة لا تَصنع الحضارة.

النوايا -في الأدب- هي فضاؤنا الشخصيُّ الذي نقرأ فيه الواقع، كلّ الواقع، ونُحرّر فيهِ مَقاصِدَنا كتابة أو رسماً أو لحناً أو حركةً. وهو تحريرٌ يُنجزهُ الأنا ممتلئاً بصراعٍ مُتجدِّدٍ قُطباهُ مَطلَبُ البَهجَةِ ومطلَبُ التَحْزينِ، أي ما يَبني المعنى الناعمَ في الدنيا وما يهدمهُ. النوايا وَلُودٌ، ولن يَفنى نَسلُها. ومتى عجزت نيّةٌ منها عن التحقق في الواقع سكنت الذاكرةَ وسُمِّيَتْ حَسرةً، وتظل - كالحب الحِجازيّ- حيَّةً تجرحُ بأظْفارها وعي الذينَ (إذا أحبّوا ماتوا)، وربما لاحظتُم، مثلما لاحظتُ، أن أغلب مكتوبنا الأدبيّ مجروحةً معانيه من كثرةِ التَحسُّرِ على قِلّة تدبُّرها بالقرإة، أي لعدم نزولها إلى ميادين الناس.

ولأن الأدبَ، والكتابة منه بالخصوص، إنشاة لِمَا لم يحدث وقد يحدث في معيش الناسِ (وهل الأدب إلّا نوايا الأدبإ؟) فإنه يتعرض دائما لمحاولات الغزو؛ لأن نوايا الأدبإ تُحرجُ السائِدَ والمتمكِّنَ؛ حيث تحتَشِد على حدودهِ جيوش الدِّينِ والمخابراتِ والأحزابِ ومؤسساتِ سَبْرِ الآراء والقانونِ والأخلاقِ والنَّقدِ والسِّحرِ وعلمِ النَّفسِ، كل هذه الجيوش تسعى إلى السيطرة عليه وإفساد نواياه. بل إنّ حلم كل سُلطة، مادية كانت أو رمزية، إنما هو تدبير معرفتها بما تجهله في الكُتّابِ: أي منطقة نواياهم. أفعال الكُتّاب المتحققة في الزمن لا تشغل بال الحاكم ولا يقَضُّ بها مضجع أعوانهِ إلّا نادراً، ما يشغل البال الحكومي هو معرفة نوايا الكاتِب والتلاعُبُ بها عبرَ دَسِّ نوايا مضادّة لها بين تفاصيلها. ذلك أنه كلّما عرفت سلطةٌ مّا نوايا كاتبٍ مّا حاسبتهُ عليها وَفْقَ قانون «إنما الأعمالُ بالنيّات وإنما لكل إمرئ ما نوى» (قال الشافعي: هذا الحديثُ ثُلُثُ العلم، ويدخل في سبعين باباً من الفِقْه). غير أن نوايا الكتّابِ، كثرةً من نواياهم، تتفلَّتُ دائماً من قبضة السلطة، أيّ سلطة، تتفلّتُ خفيفةً حالمةً وطريةً لتصنع معجزتَها وثورتَها.

لهذا الكتاب، ككل الناس، نوايا. ومن نواياه أَنْ يَحُثَّ فعلَنا النقدي الأدبيّ على الخروجِ من حيِّزِ التطبيق الأمين لتعاليم نظريات النقد الغربية إلى حيِّز التفكير معها، بل والتفكير بها قصد تَبيِّنِ حدودِ قراءتِها نصوصنا الإبداعيةَ من جهة، والنظر في إمكان تجاوزها وَسْعَ الطاقةِ من جهة أخرى، وبذلك يتخلّى النقد عن صِفة الخطاب الواصف للنصوص بجفافٍ لغويٍّ وصلفٍ عُلوميٍّ ليُعلن عن شرعية نهوضه عنصراً من عناصر إبداعية أيِّ نصٍّ مقروءٍ، أي: يعلن عن شرعية انتمائه إلى مكوّناتِ النصِّ المقروء، إلى الإبداع الفنيّ. ومن نوايا هذا الكتاب أيضاً ألَّا يطمئنّ إلى حسن نوايا الواقع النقدي؛ أعني أنْ يتعامل معها بسوء نيّة أدبية، ذلك أنّ الكتابة المطمئنّة في ظل أنظمة سيئة النيّة جرمٌ ثقافيٌّ يرتكبه الكاتب في حقّ نصَّه وفي حقّ قُرّائه ومجتمعه. وإن تاريخ الأنظمة المادية والرمزية في تعاملها مع الكُتّاب يشي بأن لأغلبها حاسَّةً كَلْبيَّةً تُجيد بها شمَّ مضمراتِ المكتوبِ ونواياه، وتعرف جيداً مدى تأثير النصِّ في المتلقّي، فلا تتواصل معه إلّا بارتياب وحذر شديديْن خشيةً مِمّا قد تُمثِّلهُ الكتابة من خطورة في توجيهها الرأي العامّ صوبَ ما لا تَرتضيه هيَ من وجهات.

تحميل كتاب كنائسُ النّقد PDF - عبد الدائم السلّامي

هذا الكتاب من تأليف عبد الدائم السلّامي و حقوق الكتاب محفوظة لصاحبها