- اللغة : العربية
- اﻟﺘﺼﻨﻴﻒ : علوم إسلامية
- الفئة : علوم القرءآن
- ردمك : 978.977.6918.22.1
- الحجم : 3.82 Mo
- عدد الصفحات : 264
- عدد التحميلات : 943
- نوع الملف : PDF
- المؤلف : عبد الباقي يوسف
تحميل كتاب القرآن الكريم سورة يونس - التحليل الروائي pdf الكاتب عبد الباقي يوسف
لبث النبي يونس عليه السلام يدعو قومه ثلاثاً وثلاثين سنةً دون أن يسْتجيبَ له أحدٌ من عُمُومِ قومه سوى رَجُلَين. الأمرُ الّذي بثَّ شيئاً من اليأسِ لديه تجاهَهم، وأنَّه مهما لَبِثَ يدعُوهم فلن يستجِيْبُوا كون عقيدةِ الأوْثَانِ غَدَتْ مُترسِّخَة فيهم.
هنا اتّخذَ قراراً بأن يَهْجُرَهم، ويترُكَهم في عبادةِ أوْثَانِهم، دون أنْ يأمرَه اللهُ بذلك، فقد اِجْتهدَ بهذا القرارِ وقامَ بتنفيذِه. ولعلَّ الأمرَ شبيهٌ بالحَياءِ من اللهِ عن تَكْملَةِ المُهمّة والانسحابِ منها بسببِ ما أصابَه من يأسٍ خلالَ تلك السّنواتِ، وأنّ وُجُودَه داعياً لا جدوى منه مهما بَقِيَ، فقد اِسْتَفْحلَت فيهم عبادةُ الأوثانِ. فآثرَ الاِنْسحَابَ والاِبتعادَ عنهم إلى مكانٍ آخرَ يعبدُ فيه اللهَ عزَّ وجَلَّ.
الأمرُ اللّافِتُ للنَّظرِ هنا أنّ قوْمَه وبعدَ أن هجرَهم، تركُوا عبادةَ الأوثانِ، واهتدُوا إلى الإيمانِ بوحدانيَّةِ اللهِ وعبادتِه. وقد حصَلَ ذلك لدى مُغادرَةِ نبيِّهم، حيثُ أرْسَلَ إليهم سُحباً سوداءَ، اسودَّت على إثْرِها الطَّبيعةُ التي كانُوا فيها، فكلُّ هذه المَظاهِرِ اِكتسَتْ بالسَّوَادِ جرَّاءَ هذه السُّحبِ السَّوْدَاءِ. وهذا أمرٌ مُفْزِعٌ فقد تغيَّر كلُّ شيءٍ، الأمرُ الذي جعلَهم يُراجِعُون أنفسَهم ويَصِلُونَ إلى قناعةٍ بأنَّ ذلك بدايةُ عِقابٍ من اللهِ الّذي في السَّماءِ نتيجةَ عدمِ إيْمانِهم به. فلا أحدَ بوِسْعِه أن يغيّرَ من الأمْرِ شيئاً، وكلُّ شيءٍ من حَوْلِهم أصْبَحَ سَوَاداً في سَوَادٍ، وليس هذا فحسْب، بلِ اِكْتَظَّتِ الطُّرُقَاتُ والبُيُوتُ بدخانٍ أسْوَد. كانَت هذه نقْطَةَ التَّحَوّلِ الكُبرى فيْ حَيَاتِهم، نقطةَ مُرَاجَعَة النَّفْسِ في العَقيدةِ الوَثَنيَّة الّتي كانُوا عليها. فلجَؤُوا إلى اللهِ بالتَّضَرُّعِ كي يعفْوَ عنهم ويغفِرَ لهم ما قَدْ بَدَرَ منهم. حيثُ اجتمعُوا كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، بل جمعُوا حتَّى حيواناتِهم أيضاً، وقد ارتدُوا ثيابَاً رثّةً، وغدُوا ينثرُونَ الرَّمادَ الأسودَ على رؤُوسِهم، ويَبْتَهِلُون إلى اللهِ الواحدِ الأحدِ بالعفوِ والمَغفِرةِ.
هنا تقبَّلَ الله عزَّ وجلَّ التَّوبةَ منهم، وأزاحَ عنهم كلَّ ذلك السَّوَادِ، وعادَت حياتُهم طبيعيَّةً كما كانَت، لكن على قاعدةٍ إيمانيَّة باللهِ دون عبادةِ الأوثانِ.
في هذا الوَقتِ كان نبيُّهم يونس عليه السَّلامُ قد ذهبَ إلى بُقعةٍ أخرى مُبتعِدَاً عنهم ودون أن يعلمَ ما حصَلَ معهم من مُستجدَّات.
وذات يومٍ ركبَ سفينةً للابتعادِ عنهم، وعندما مضَتِ السَّفينةُ في البحرِ، أصبحَ هناك اضطرابٌ في المياه ممّا جعلَ السّفينةَ بين مدٍّ وجزرٍ وعلى وشكِ الغرقِ، فرأوا وفقَ مُعتقَدِهم أن أحدَ الرَّاكبين إذا ضحَّى بنفسِه ورمَى نفسَه في البحر، يمكنُ أن يكونَ بذلك قد فدَى البقيَّةَ وأنْجَاهم. فأجرُوا قرعةً لهذه الغايَةِ، ووقَعَتِ القرعةُ على يونس عليه السّلامُ، لكنهم تردَّدُوا لأنَّهم كانُوا على علمٍ بمدَى صلاحِه واِسْتقامَتِه. ثمَّ أعادُوا القرعَة مرَّةً أُخرى، لتعودَ مرَّةً أخرى عليه، وكذلك تردّدُوا، فأَجْرُوا القرعةَ للمرَّةِ الثَّالثةِ والأخيرةِ، فعادَت ووقعَت عليه. فلم يبْقَ أمامَ يونسَ عليه السّلامُ سوى أن يرميَ بنفسِه في البحرِ. وهو الذي تركَ قومَه كي يتفرّغَ لطاعةِ الله وعبادتِه بعيداً عنهم، ليُصبحَ في هذا الواقعِ الغريبِ الذي لم يجدْ بُدَّاً من تنفيذِه، وهو متأمّلٌ بأنّ اللهَ قادرٌ أن يُنجيَه. ولم يُخيِّبِ اللهُ أملَه، فعندما صارَ في البحرِ، أرْسَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ حوتاً ليَلْتَقِمَه وفقَ الوصْفِ الوَارِد في القُرآن: [فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ] الصافات142. والاِلتِقَامُ هنا جاءَ بمعنى ما يمكنُ أن نقولَ بأنَّه اِسْتقبالٌ له كي يجنّبَه ما يُصيبُه من أذىً. [فَالْتَقَمَهُ]. أي غدا لقمةً ليَسْتقرَّ في جوفِ الحُوْت، وهذا أولُّ ما يفعلُ هو أن يُجَنِّبَه الغرقَ، فأصبحَ في مَعْزِلٍ عن الماءِ عندمَا التقمَه الحوتُ. وهنا شيئاً فشيئاً بدأَ يسْتَشْعِرُ شيئاً من الأمانِ، ويُصدِرُ بعضَ الحركاتِ فرغم أنّه صارَ في البحرِ، إلّا أنَّ ماءَ البحر لا يَقرُبُه. في هذا المكانِ الغريبِ الذي رأى نفسَه فيه ودون أن يمسَّه أيُّ أذىً. عندَ ذاك وفي هذا السُّكونِ أخذَت بعضُ الأصْواتِ تَتَرَامَى إلى سمعِه حتَّى أدْركَ بأنَّها تسْبيحَاتٌ تُسَبِّحُ بها مخلوقاتُ الله في البحرِ، فكلُّ شيءٍ يسبّحُ بحمْدِ الله، لأن فضلَ الله هو على كلِّ شيء، وليس على الحيواناتِ التي تتحرَّك، بل حتَّى على النَّباتِ والجَمَادِ، وهذا كلُّه موجودٌ حتّى في أعمَاقِ البِحارِ، فتُسبِّحُ بحمدِ الله، على نعمةِ الحياة، ونعمةِ الرِّزقِ وما إلى ذلك.
فقد تعرَّفَ سيدُنا يونسُ على أشياءٍ جديدةٍ، على عالمٍ جديد، ومعَ كل هذه التَّسْبِيحاتِ التي يُصْغي إليها، غدا يسألُ اللهَ العفوَ والمَغفِرةَ عمّا بَدَرَ منه من يأسٍ تجاه قومِه، وقد كلَّفَه اللهُ وشرَّفَه واصْطَفَاه لهذه المُهمَّة العظيمةِ، مُهمَّةِ النُّبُوَّة، مهمَّةِ إصلاحِ النَّاسِ، وكانَ عليه أن يصْبِرَ صبراً على صبرٍ، لكنَّه تركَهم دون أن يأْذَنَ اللهُ له بذلك. فهذه هي لحظاتُ النَّدَمِ الكُبرَى على ما بدَرَ منه، وهنا يأتي الدُّعاءُ من عمْقِه في ذاك المكانِ: [وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ] الأنبياء87. فقد وجَدَ نفسَه بغْتةً [فِي الظُّلُمَاتِ]، ظُلْمَةِ اللَّيلِ، وظُلمةِ عُمْقِ البحرِ، ثمَّ ظلمةِ جَوْفِ الحوتِ في عمقِ البحرِ.
فأَيْنَمَا تكونُ وكيفَمَا تكونُ تبقَى حَاجتُك إلى اللهِ، وليسَ الإِنسانُ فحسْب، بلْ كلُّ مخلوقٍ من مَخْلُوقَاتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، أَيْنَما يكونُ وحيثُنا يكونُ تبقَى حاجتُه إلى اللهِ. فلا تتردَّدْ وقل: [لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ]. ومَن ذَا الذي لمْ يظلمْ نفسَه، ومَن ذا الّذي يكونُ في غِنىً عن تَسْبيحِ الله؟ وها هو نبيُّ اللهِ يمُرَّ بهذه المِحْنَةِ البَشرِيَّةِ، وهو نبيٌّ، وهذا يعنيْ أنَّ كلَّ إنسانٍ يمكنُ له أنْ يتعرَّض لردّاتِ فعلٍ نتيجةَ ظرْفٍ ما، أو واقعٍ ما. كلامٌ في مُنتَهَى الدّقَّةِ ومُنتهى التَّواضعِ لله عزَّ وجلَّ، في اعترافٍ كلُّنا نحتاجُه، وأن نواجَهَ أنفسَنا به أمامَ اللهِ تعالَى ذكرُه: [لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ]. وهذا دعاءٌ يجعَلُ الإنسانَ في تواضُعٍ، في خُشْوعٍ، في نَدَمٍ حَقِيقيٍّ، على ما بدرَ منه بحقِّ نفسِه. هكذا قالَها بشجاعةِ الاعتراف: [إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ]. فهذه هيَ العودةُ الحَقيقيَّةُ إلىْ اللهِ، العودةُ بندمٍ حقيقيٍّ، العودةُ بدعاءٍ حقيقيٍّ نابعٍ من العُمْق: [لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ]. وإذا قالَها نبيٌّ من أنبياءِ اللهِ، فكم يحتاجُ أنْ يقولَها الظّالمون، المُنْتَهِكُون، الطُّغَاة، وكثيرٌ منهُم لا يعتَرفُ أصلاً بأنه مُنتهِكٌ، أو أنَّه ظالمٌ، أو أنَّه قد طَغَى. فيدَّعِي بأنه غيرُ ظالِمٍ وهو في ذروةِ مُمَارسَةِ الظُّلْم بحقِّ نفسِه وبحقِّ غيرِه. وهذا هو الاِستكبارُ بعينِه، عندما لا يعترفُ الإنسانُ بأنه ظَلَمَ، لأنَّه من خلالِ ذلك يستَمرُّ في الظُّلمِ، بل يُصبحُ الظُّلمُ والعدلُ بالنِّسْبَةِ إليه سيَّاناً، أو أنه يتجنّبُ ما أَمْكنَه ممارسة العدلِ، فهو مُسْتكِبَر وقد عوّدَ نفسَه على الظُّلمِ والجُوْر والاِنتهاكَاتِ.
فهذا الدُّعاءُ يُزِيحُ عن الإنسانِ كلَّ آفةٍ من آفاتِ الاِستكبارِ والتَّعالِي: [لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ]. وهنا فقد اِستجابَ ربُّ العزّةِ والجلالِ لنبيّه، فقد اتّجَه الحوتُ بأمرِ ربِّه نحوَ شاطِئِ البحرِ، ولفَظَه لفْظَةً واحدةً كما كان قد التقمَه لقمةً واحدةً، لفظَه برفقٍ دونَ أن يمسَّه أذىً، كما التقمَه برفقٍ دون أن يمسَّه أذى، ولا حتّى خدشٌ في جسدِه سواء عندَ اللَّقمِ، أو عند اللَّفظِ.
تحميل كتاب القرآن الكريم سورة يونس - التحليل الروائي PDF - عبد الباقي يوسف
هذا الكتاب من تأليف عبد الباقي يوسف و حقوق الكتاب محفوظة لصاحبها