تحميل كتاب الساميون ولغاتهم pdf الكاتب حسن ظاظا

الساميون ولغاتهم..تعريف بالقرابات اللغوية والحضارية عند العرب pdf

في أقصى الغرب من القارة الآسيوية، الذي يسمى أحياناً بالشرق الأدنى، وتساهلاً بالشرق الأوسط، عاش أقوام تتقارب لغاتهم، وقامت لهم حضارات متعاصرة أو متعاقبة، هم الذين أطلق عليهم إسم الساميين. في بقعة من الأرض قامت الحضارات التي أنشأها الساميون. وهذه التسمية ترجع إلى صحيفة الأنساب الواردة في الإصحاح العاشر من سفر التكوين. ففي هذا الموضع نقرأ أن آشور وآرام وعابر، الذي يذكر العبريون على أنه أبوهم الذي ينتسبون إليه، كانوا جميعاً من أبناء سام بن نوح. أما الإستعمال العلمي للفظة " سامي " فحديث العهد يراجع إلى عام 1781، عندما إقترحه اللغوي الألماني شلوتزر علماً على الشعوب التي أنشأت في هذا الجزء في غرب آسيا حضارات ترتبط لغوياً وتاريخياً كما ترتبط إلى حد ما من حيث الأنساب. وقد حدث نفس الأمر في أيامنا هذه، إذ إقترح المستشرق الأمريكي، الألماني الأصل، شبايزر إصطلاح " اليافثيين " للدلالة على شعوب كثيرة غامضة التاريخ والإنتماء، كانت تعيش في إيران وأعالي الدجلة والفرات قبيل فجر التاريخ، خصوصاً فيما يسمى ببلاد العيلامين. ويقول العالم الفرنسي الأب هنري فليش: إنه ينبغي ألا نفهم من إستعمال كلمة السامية أي شيء أكثر من إصطلاح المقصود به تيسير الأمر على الباحثين، دون أن نعتقد أن له دلالة عنصرية. والذي يريد الباحث الفرنسي بهذا القول هو الإشارة إلى أن أية عصبية للسامية أو ضدها بالمعنى الديني ( ضد العرب مثلاً ) لا تقوم على أساس من علم السلالات البشرية. فإذا ما إنتقلنا إلى علم اللغة المقارن، وجدنا أنفسنا على أرض أكثر صلابة. فلغات هذه الأمم التي تسمى سامية تتشابه في أكثر من نقطة رئيسية، فالألفاظ المتداولة بينها تمثل نسبة ضخمة من ثروتها اللغوي، ومخارج الحروف التي تميز هذه العائلة، ولا توجد في غيرها، وصيغ الصرف التي تتفرع بها الكلمات من المادة الواحدة تجري في كل هذه اللغات على خطة لا تختلف في جوهرها، إلى غير ذلك مما سيتضح لنا بعد، وهو أمر إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن وراء هذه اللغات التي تسمى سامية لغة واحدة، إندثرت في العصور السابقة على التاريخ. ولكن أين كان المتكلمون بهذه اللغة، وبعبارة أوضح، أين كان المنطلق البشري واللغوي لهذه المجموعة السامية قبل أن يعرض لها الإمتزاج والتشعب، وقبل أن تظهر فيها كل هذه الأمم واللغات واللهجات؟ المهد الجغرافي الأول للغة السامية الأم بحث حير العلماء. فبعضهم حاول أن يلمس المسألة من أقرب السبل في ظنه، وهو طريق دراسة المأثورات القصصية القديمة، وفي مقدمتها قصة الطوفان. ففي هذه القصة يفهم من السياق المذكور وفي التوراة وفي كثير من أساطير البابليين والشومريين أن السفينة رست في مكان ما من المرتفعات وفي كثير من أساطير البابليين والشومرين أن السفينة رست في مكان ما من المرتفعات التي ينبع منها الدجلة والفرات في شمال العراق. وبناء على ذلك قال هؤلاء بأن مرتفعات كردستان هي المعنية، وحددوها مكاناً أصلياً للساميين. هناك إفتراض آخر يجعل ممد بين النهرين، أي سهول العراق، البيئة الأولى للسامية الأم. إلى هذا ذهب إرنست رينان، وفرانسوا لنورمان، وفريتزهومل، وبيترز، كما كان من أوائل القائلين بها الإيطالي إغناطيوس جويدي في بحث نشره في روما بعنوان " مهد الشعوب السامية " سنة 1878-1879 ". وإفترض المستشرق الأمريكي كلاي أن يكون الموطن الأول للساميين في الشمال من سوريا، حيث بلاد " آمورو " كما كانت تسمى في النقوش القديمة. وهذا الإفتراض لا يقوم على دراسات والمأثورات الشعبية بين المناطق التي إزدهرت فيها. وقد تمسك به من الفرنسيين مورية وتعصب له جداً، كما أفاض في ذلك الدكتور جورج كونتنو، وكان من الأدلة التي إستعملت لتأييد هذه النظرية أن الأسرة البابلية الأولى، وهي من أقدم وأمجد الحكومات السامية في العراق، كانت نازحة من الغرب، من إقليم " آمورو ". كذلك لوحظ تشابه في بعض بقايا الحضارات القديمة بين الجهتين. ولكن إذا سلمنا بذلك فإنه يترتب عليه أن يكون الساميون قد إنطلقوا من سوريا إلى غيرها من بلاد الشرق الأدنى، كالعراق والأردن وشبه الجزيرة العربية، وهذا يقتضي رحلات طويلة عبر الصحراوات لا يمكن القيام بها في هذه العصور الموغلة في القدم إلا على ظهور الإبل، ومعنى ذلك أن الإبل ينبغي أن تكون معروفة ومستأنسة ومستخدمة في القوافل منذ الألف الرابع قبل الميلاد على الأقل، وهو أمر تقوم الأدلة كلها على خلافه، إذ أن إستعمال الجمال في هذه المنطقة لم يعرف إلا في أخريات الألف الثالث قبل الميلاد وربما بعد ذلك، وهي عقبة كؤود في طريق إقرار هذه النظرية. فمنذ فجر التاريخ وما قبل التاريخ، كانت كل المواطن المقترحة الأخرى مسكونة بشعوب غير سامية ما عدا جزيرة العرب. ثم إن الأسطورة التي وردت أصداء منها في أول سفر التكوين من التوراة تذكر أن الجنة الأرضية كانت ترويها أربعة أنهر تجتمع في مصب واحد لتصبح نهراً واحداً وإثنان من هذه الأنهر هما الدجلة والفرات. أما الإثنان الآخران فكان أحدهما يسمى فيشون، وتصفه التوراة بأنه يحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، وفيها المقل وحجر الجزع ، وظاهر أن هذا النهر الثالث كان ربما يوصل إلى الأطراف الجنوبية الشرقية من شبه جزيرة العرب مما يلي عدن شرقاً. والنهر الرابع يسمى في هذا القصة جيحون، وتصفه التوراة بأنه " يحيط بجميع أرض الحبشة ". ويبدو من ذلك أنه كان ينبع من جبال اليمن ويأخذ مجراه مستديراً حولها فيلتقي بنهر فيشون ونهر الدجلة والفرات في شط العرب، وقد أفادت أبحاث المستشرق الألماني " فريتز هومل " أن ميل السطح في شبه الجزيرة العرب، وتعرضه للرياح الموسمية، ربما كان قد تغير بإنخساف في طبقات الأرض، فندر الماء في شبه الجزيرة العربية، وجف النهران الكبيران. وهكذا نجد أنفسنا هنا أمام نظرية متكاملة: فالساميون عرفوا أول ما عرفوا النهر لا الجبل، إذ عاشوا على النهرين الكبيرين اللذين كانا يشقان شبه الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، كما عاش الشومريون على النهرين الآخرين الدجلة والفرات. كذلك تفسر لنا هذه النظرية الأسباب التي كانت وراء هجرة الساميين وإنتشارهم في الشرق الأدنى. أما العرب الذين بقوا في أرضهم بعد جفافها فإن لغتهم المقدسة قد بقيت معهم، وهذا يفسر لنا القدسية التي كانت للعربية الفصحى بين عرب الجاهلية، كما يفسر لنا إجماع علماء النحو المقارن للغات السامية، من أمثال: بروكلمان ووليم رايت وإدوار دوروم ودافيد يلين، على أن اللغة العربية الفصحى هي بلا منازع أقدم صورة حية من اللغة السامية الأم، وأقرب هذه الصورة إلى تلك اللغة التي تفرعت منها بقية اللغات السامية. ويضيف العالم الإيطالي سباتينو موسكاتي إلى ذلك لو تتبعنا تاريخ الموجات البشرية التي إنطلقت في هجرات تاريخية معروفة بيقين نحو ما نسميه الآن بالشرق العربي، لوجدنا أن هذه الحركات كانت دائماً وأبداً تنطلق من شبه الجزيرة العربية. كان الدافع إذن إلى خروج الساميين الأول من موطنهم الأصلي في شبه الجزيرة العربية هو الجفاف، ونضوب معين النهرين اللذين أشرنا إليهما، ولعل مما يزيد هذه النظرية رجوحاً أن نتذكر أن هذين النهرين ما تزال أجزاء من مجرى كل منهما موجودة إلى الآن يملؤها المطر إذا إنهمرت سيوله في بعض الأحيان، مما ظهر أثره واضحاً في الشعر الغنائي في الجاهلية. وإذا كان الساميون قد تفرقوا على حواشي شبه الجزيرة بسبب هذا الجفاف، فإن معنى ذلك أن القفر سرعان ما فصل بينهم، فتطورت لغاتهم وحضاراتهم، متباعدة بعضها عن بعض. وهذه الظاهرة هي عكس الظاهرة السائدة في تكوين الشعب المصري، ففي مصر يقع الخصب في وادي النيل مجتمعاً في صعيد واحد تحيط به الصحاري من الجانبين، مما أدى إلى تأكد الوحدة السكانية للمصريين في مقابل التفرق الذي حدث عند الساميين. وما سعت إليه صفحات هذا الكتاب هو تتبع هؤلاء الساميين في بيئاتهم لنرى كيف تشعبت شعوبهم وتنوعت لغاتهم وتعددت حضاراتهم على مر التاريخ.

هذا الكتاب من تأليف حسن ظاظا و حقوق الكتاب محفوظة لصاحبها