تحميل كتاب اشكاليات التجديد pdf الكاتب ماجد الغرباوي

لا شك أن الفكر الإسلامي قدم فيما مضى قراءات متعددة للدين وللنص الديني تختلف وفق المعطيات الزمانية والمكانية لتلك القراءات. فكانت لكل مرحلة تساؤلاتها وإشكالياتها التي تعبر عن هموم الفرد والمجتمع آنذاك، وكان الفقيه والمفكر يستجيبان للأسئلة المصطفة أمامهما بحثا عن اجابات تلبي حاجات المسلم وتطلعاته، تحفظ للشريعة الإسلامية دورها في الحياة.

وهذا الأمر كان يتطلب من الفقيه والمفكر أن يجددا باستمرار أدواتهما المعرفية ومحاولة اكتشاف المنطق الداخلي للنص الديني من أجل فهم ينفتح على حركية الحياة ويواكب تطورها المستمر. وبهذا الاتجاه أقبل المسلمون على الحضارات الأخرى وتفاعلوا مع عناصرها الايجابية واعادوا صياغتها في إطار خلفيتهم الفكرية وثوابتهم العقيدية.

ولم يقف التجديد في مراحله الأولى على مستوى محدد بل طال علم الكلام والفقه وأصوله والتفسير وعلوم الحديث واللغة .. فأثرت حركة التجديد الفكر الإسلامي في جميع جوانبه.

لكن عندما تعطل التجديد في مرحلة لاحقة من مراحل تخلف المسلمين وعجز الفقيه والمفكر عن تجديد أدواتهما المعرفية خبى الفكر وتعرض للتزوير والتشويه، وتعطل العقل ونشطت الذاكرة، وأخذت الشريعة تضحي بغاياتها ومقاصدها الأساسية أمام  حركة تأويل النصوص والتحليق بالإنسان خارج همومه الحياتية، وأصبح الواقع يضج بالمغالطات. حينذاك شعر المصلحون ثانية بضرورة التجديد في الفكر الإسلامي لازالة التراكمات والأوهام والخرافات والأساطير التي علقت بالدين من جراء السكون وفقدان الثقة بالذات.

ثمة حقيقة أن فترة السبات لبّدت الوجه المشرق للتجديد حتى صار يوحي بدلالات سلبية في أذهان من تعطلت مواهبهم الابداعية وصار ديدنهم الانشداد إلى الماضي والتشبث بالتراث لحل جميع أزمات الإنسان. فالتجديد اليوم أحد القضايا التي أثارت وما زالت تثير جدلا واسعا حول مفهومه، أدواته، حدوده، وضروراته رغم أنه سنّة مضطردة تتجلى في أفاق الحياة المختلفة (الكائنات الحية، الموجودات الطبيعية، المؤسسات الاجتماعية والدورات التاريخية). وحينما يدور الحديث عن تجديد الدين واحيائه يغدو أمرا مريبا خشية الاطاحة باصوله أو انكفائه وتراجعه. وبهذا الشكل ظل التجديد مفهوما ملتبسا يستدعي الكشف عن دلالاته رؤية واضحة لفضائه المعرفي الذي يتحرك في ظله. فقد يترآى للبعض أن التجديد انسياق غير واع مع التيارات الداعية إلى نبذ الماضي والتخلي عن الهوية ومطلق التراث، والتصويت إلى صالح الحداثة، واطلاق العقل، والقطيعة مع الدين، واللهاث وراء الحضارة الغربية، رغم أنه ضرورة افرزتها مرونة الشريعة واستعدادها للبقاء إلى جنب الإنسان في تحولاته الجذرية ومنعطفاته الحادة التي تعتري حياته عادة.

غير أن الموقف من التجديد لم يكن سلبيا دائما بل انقسم الموقف بين مؤيد له، وهم روّاد الإصلاح الذين دفعهم وعي المرحلة التاريخية ورهانتها المستقبلية إلى تبنيه من أجل إحياء الشريعة واعادة الفاعلية إلى الدين وبعث الفكر االإسلامي من جديد. وبين معارض له قد ارتمى بعيدا في احضان الماضي بحثا عن حلول جاهزة لمشكلاته المستعصية بعد أن رفع شعار (ليس بالامكان افضل مما كان). فاعتبر دعوات التجديد دعوات ظالة تحركها أياد مشبوهة أو متآمرة على التراث والسلف الصالح. حتى عرقل ضجيج هؤلاء حركة الإصلاح والوعي الإسلاميين، دون مراجعة أو تأن في اصدار الأحكام، بينما يكفي لهؤلاء شاهد على خطأ تصورهم الفجوة الكبيرة التي يعيشها الفكر الإسلامي وتخلفه عن مواكبة الحياة، حتى تراجع الدين في أغلب المواقع وتقوقع في دائرة العلاقة بين العبد وربه بعيدا عن الواقع وتفاعلاته. أو ربما تحول الدين إلى مشروع شخصي يؤمّن لبعض المنتفعين حاجاتهم النفسية والروحية والمادية.

الا أن وعي المصلحين فاق تصور هؤلاء وثبتت أقدامهم على طريق الإصلاح، فباغتوا الواقع المقفل وتوغلوا في الممنوع، وأطلقوا صرخة مدوية اعادت الامل. وهذا ما قام به رجال الإصلاح ممن سبق السيد جمال الدين الحسيني المعروف بالافغاني وممن تلاه فاوقفوا المسلمين على نقاط ضعفهم ورسموا في سماء الحرية علامات الحياة القادمة وفضحوا الاستبداد بشتى أنواعه وكشفوا عن مغالطات المنتفعين والمتزمتين.

غير أن الممارسات الإصلاحية لم تنج من كثير من الإشكاليات بسبب التشابك والتعقيد في اختيار الحلول المناسبة لها ضمن إطار الشريعة ومرجعياتها الفكرية والعقيدية، ففي كل يوم تتجدد إشكالية أمام  رواد الإصلاح، إلا أن بعضها ليس عصيا بل يمكن تفكيكها واعادة صياغتها، والقسم الاخر ينتظر جهودا اكبر لحل معضلاته.

وفي هذا الكتاب إشارات مكثفة لمعالم عدد من المشاريع الإصلاحية المضادة للإستبداد، ولمحات سريعة لبعض إشكاليات التجديد ضمن تلك المشاريع، لا أحسب أنها سوّت تلك الإشكاليات أو وضعت حلولا نهائية لها وإنما هي ومضة في فضاء الإصلاح المعرفي يمكن تطويرها ومعالجتها مستقبلا في مجالات اوسع. ومن الله نستمد العون والسداد.

هذا الكتاب من تأليف ماجد الغرباوي و حقوق الكتاب محفوظة لصاحبها