تحميل كتاب مجلة أغورا آرت - العدد الأول pdf الكاتب مجلة أغورا آرت

في أزمنة الخراب لا يكونُ أمام المدنِ سوى أنْ تُدوّنَ صمتها في كتابةٍ تنفتح على العدمِ كآخر محاولة للحياة، فالكتابة عن الحرب صمت مسبوك برهان المواجهة مع اللاشيء - ذاك اللامرئي الذي يلتهمنا خلسةً، فإن تعيش في زمن تُبتلع فيه المدن كغرق البحار، يعني أنك قد صافحت العار على مرأى من العالم بأسره، حينئذٍ ينبغي عليك ككاتب أن تفكر في التعايش مع الفاجعة كتحصيل حاصل، وإلا أصبحْتَ شاهد زورٍ على انهيارك، فما قيمة الكتابةِ إِنْ لم تكن قادرةً على فتح قنوات مع المجهول الذي هو في ترقب دائم للانقضاض على تذكاراتٍ عن مدن وأزقةٍ شربنا صفاء أحلامها وأحزانها.

تحضر مشاهد الحرب الطائفية التي حدثت في بغداد كلّما فكَرْتُ في الكتابةِ عن المكان وما يعنيه للمشتغل في الحقل الأدبي والفني، متسائلا عن كيفية رصد ما حدث في روايةٍ أو قصيدة أو لوحةٍ أو عمل مسرحي، فذلك بالنسبة لي من المهام الشاقَةِ؛ لأنّ تحفيز الخيالِ في هاته الحالة يرتكز على الذاكرة الأمر الذي يعني أنّنا سنقوم بمهمتين فى آن واحد، وبعبارة أخرى، أننا نعمل على تدوين أقوال الزمن عبر استدعاء سندِهِ الذاكراتي: المكان، وهذا ما ينبغي على كل كاتب أو فنّان القيام به عندَ الشروع في كتابة وتصوير سيرة المدن الساخنة كما حدث مؤخرًا لبيروت وغزة.

ذات مرة توجّهتُ بسؤال للصديق الشاعر بول شاوول حينها كنا نجوبُ شوارع بيروت في ظهيرةٍ شتائيّةٍ مشمسة كان سؤالي يدور حول سبب عدم هجرته لباريس بعد أن توفّرَتْ له أكثر من فرصة، والواقع، بدا سؤالي هذا كما لو أنّ صاعقةً قد ضربَتْ شخصًا ما ، أتذكّرُ كيف نظر إلي شاوول بحسرة وتنهد ليجيب: افترض أنّني هاجزتُ مَن سيكتب سيرة هاته المدينة بعدي؟ حينئذٍ فهمْتُ عمق العلاقة الشائكة بين الشعر والمدينة ، إذ في الحروب تختبئ المدنُ من الموتِ في قصائد الشعراء، وهذا عينه ما نجده في كتاب (ضد أفلاطون) للشاعر والتشكيلي ناصر مؤنس الذي عمل وبمجهود كبير على نقل ذاكرة المدنِ من الجدران إلى الورق، مذكرا القارئ بأن القصيدة هي لسانُ المدنِ وصوتها الرخيمُ بالجمال، نفهم مما تقدمَ أَنَّ القصائد الأصيلة هي ملاجئ حسيّةً يحتمي بها الوجود من الانقراض؛ لذا ينبغي على الشاعرِ أنْ يجمع في روحِهِ صمتَ المدنِ جميعًا، فدونما هذا الصمت لا يستطيعُ الشاعرُ أنْ يلمس عزلة اللغة في داخله.

__محمود هدایت

تحميل كتاب مجلة أغورا آرت - العدد الأول PDF - مجلة أغورا آرت

هذا الكتاب من تأليف مجلة أغورا آرت و حقوق الكتاب محفوظة لصاحبها