كتاب بكائيات غزة برؤية الروائي محمد فتحي المقداد:

حول فكرة الكتاب

عبر بوابة التاريخ:

لا شيء يصمد أمام مهابة الموت وجبروته، وفي الحروب تختلط الأوراق وتختلف الحسابات على جميع الأوجه، وإرادة الغالب يكتب مصائر المغلوبين، ويفرض شروطه.

وفلسطين أمُّ القضايا العالميَّة بلا مُنازع في العصر الحديث، ومنذ فجر التاريخ كانت مسرحًا لصراع الأمم والشَّعوب، يتنازعون عليها، فهي مهبط الرِّسالات وأرض الرُّسل والأنبياء، ومهد الديانات السَّماويَّة التي عاشت زمانًا طويلًا بوئام وأمان، بضمانة العُهدة العُمريَّة، فكانت دُستورًا مُحتَرمًا مُصانًا من قبل أتباع الدِّيانات.

وما الحروب الصَّليبيَّة إلَّا استعمارًا مُبكِّرًا للشَّرق تحت راية الصَّليب، واسم المسيح عليه السَّلام، وامتَّدت الأحلام الاستعماريَّة لتأتي مرحلة (سايكس بيكو) بتقسيم استعماريٍّ جديد، وتكلَّل بالوعد المشؤوم (وعد بلفور1917) للحركة الصُّهيونيَّة، بإقامة وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين، وإعطاء ما لا يملكون إلى من لا يملكون، وعملت الدِّعاية الصُّهيونيَّة وبتشجيع من بريطانيا وفرنسا على الهجرة اليهوديَّة من جميع بلدان العالم.

وفي العام 1948 أعلن قرار قيام دولة إسرائيل، وبعد الحرب الخاسرة التي خاضتها الجيوش العربية (النَّكبة)، وإقرار الهُدنة، ثمَّ تمخَّضت الأمور والمُحادثات العلنيَّة والسريَّة عن (قرار 181)، وتقسيم فلسطين إلى دولتَيْن عربيَّة ويهوديَّة.  إلى جاء عام الحسم لإسرائيل 1967 الذي تكلَّل بهزيمة ثانية للعرب باِحْتلال الضفَّة الغربيَّة، وشبه جزيرة سيناء المصريَّة، وهضبة الجولان السُّوريَّة.

أوَ يُشتَكَى بالدَّمعة الخرساء..!

وفي مقولة عميقة الدَّلالات، وما يُبرِّر الذَّهاب لمنحى البُكائيّات: (وانهمرت أسئلة الموتى والأحياء عليَّ؛ سألوا عن معنى الحرية والحق، عن معنى العزة والصدق. نادى الجرح على السكين، فصحت: آه يا وطني! ولزمت الصمت)*[1].

ومنذ زمان "قفا نبكِ" حينما طالبَ "الملك الظليل" لقب الشَّاعر "امرؤ القيس" على اِعْتبار أنَّنا ما زلنا نقرأ مُعلَّقته الشَّهيرة ذات الافتتاحيَّة الفريدة:              قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ       بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

لتجيب نداءه "فدوى طوقان": (على أبواب يافا يا أحبائي// وفي فوضى حُطام الدّوُرْ// بين الردمِ والشوكِ// وقفتُ وقلتُ للعينين: يا عينين قفا نبكِ).

ولم تتوقف الخنساء عن بُكائها المديد، وما زال صداه يُحرّض عينيها لذرف المزيد من الدّموع:

أَعَينَيَّ جودا وَلا تَجمُدا          أَلا تَبكِيانِ لِصَخرِ النَّدى

وبعد هذا التِّطواف والتأرجُح الأدبيِّ بين القديم والحديث. لا بُدَّ من وقفة تأمليَّة مع عنوان جديد لكتاب "بُكائيّات غزة" للدكتورة الأديبة "ميسون حنّا" وقد وُلد من وحي الحَدَث الجَلَل ومُواكِبًا لمعركة "طوفان الأقصى".

التي اِنْطلقت مع أوّل ساعات الصَّباح من يوم السَّبت (7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 م) الموافق لـ (22 ربيع الأوَّل 1445هـ)، ضمن سلسلة الصِّراع العربيِّ الإسرائيليِّ الطَّويلة، ولم تتوقَّف يومًا المقاومة الفلسطينيَّة في الدِّفاع عن المقدَّسات ضدَّ الاِنْتهاكات الصَّارخة والفظيعة للأرض والعِرْض والدِّين.

إذ أعلَنت جميع كتائب المقاومة الفلسطينيَّة في قطاع غزَّة بدء العمليَّة؛ ردًّا على الاِنْتهاكات الإسرائيليَّة في باحات المَسْجِدِ الأقصى المُبَارك، واِعْتداء المُستوطنين الإسرائيليِّين على المُواطنين الفلسطينيِّين في القُدس والضفَّة الغربيَّة والدَّاخل العربيِّ المُحتَل.

ولمَ هذه البُكائيّات في هذا التوقيت الحرج؟.

وتُجيب "ميسون حنا": (عندما بدأت في كتابة كتابي هذا الموسوم بكائيات غزة، وقبل أن أنجزه وجب الاعتذار إلى أهل غزة والمنكوبين في العالم، لأننا مهما حاولنا أن نصل إلى عمق المأساة ، ندرك أن هذا مستحيل، نحن نلامسها فقط، وما بدأت بكتابته، وأكتبه يعكس نقطة في بحر ما يعانون).

وربَّ من قائل يقول: (لِمَ البُكائيَّات في وقتٍ يدعونا كلُّ شيء فيه لإطلاق الصَّرخات؟ إنَّ كلَّ من يفكِّر اليوم، أو يكتب لا بدَّ أن يصيبه اليأس، وهو ينظر في الهاوية التي تفصل الكلمة عن الفعل، ولا بد أن يتحسر على ضياع عمره في تجميع حروف في كلمات، وكلمات في جمل، وجمل في صفحات وصفحات لم تطعم جائعًا، ولم تحرك ساكنًا، ولم تنبه وعيًا، ولم تنقل حجرًا من مكانه)[2]*.

وكأني بلسان أمّا الفارس المقدام "مالك بن الريب" يجيب عن "ميسون حنا" وعنا جميعا؛ فلم ينتظر لمن يأتي ليرثيه بعد موته، وفي سابقة في هذا المضمار؛ فقد رثى نفسه بنفسه بخياله الواسع:

تَذَكَّرتُ مَن يَبكي عَلَيَّ فَلَم أَجِد             سِوى السَّـــيفِ وَالرُّمحِ الرُدَينِيِّ باكِيا

وَبِالرَّملِ مِنّا نسوَةٌ لَو شَهِدنَني            بَكَينَ وَفَدَّينَ الطَبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبَ المُداوِيا

فَمِنهُنَّ أُمّي وَاِبنَتايَ وَخالـــــــــــــــــــتي           وَباكِيَةٌ أُخرى تُهيــــــــــِّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــجُ البَواكِيا

وفي تتبُّع بسيط للنُّصوص المُؤثِّثة لكتاب "بكائيَّات غزة"، لوحظ أنَّها مُتساوقة بمادَّتها التي جاءت على شكل منثور أدبيٍّ، لها طرائق وخواصّ الخاطرة والمقالة والقصِّ.

كما أن عناوينها خير تعبير لتكون شاهدة على الخراب والدَّمار والهمجيَّة والمجازر الدمويَّة، التي سلكها الكيان بما يفوق الوصف والخيال، فقد سلكوا سياسة الأرض المحروقة، بمباركة عالميَّة من القوى العالميَّة التي كانت تدَّعي الحريَّات وصيانة حقوق الإنسان، توافدت قوى الشرّ والظلام من أنحاء العالم إلى بحر غزة، لتزيد الحصار حصارًا.

وهذه البُكائيَّات التي  نحن بصددها خصصَّتها الكاتبة "ميسون حنا" لغزَّة تحديدًا، وهي إنَّما فعلت ذلك لتكون شاهدة توثيق وتأريخ على مرحلة ظلاميَّة مُظلمة، كشاهد "محمد فتحي المقداد" على العتمة. في كتابه "شاهد على العتمة". الأجيال القادمة يجب أن يكون بين أيديها سرديَّتنا المُخالفة لسرديَّة الكذب والدّجل والتضليل العالميّ.

ختامًا:

البُكاء ووسيلتها الضروريَّة هي الدُّموع، إنَّما ذلك سِمَة إنسانيَّة لازمت البشريَّة منذ بدء الخليقة، ومع أبناء أبينا آدم عليه السَّلام – هابيل وقابيل- وبذرة الدَّم الأولى في التاريخ، ولم تتوقَّف شلَّالاته نذيرة الأحزان والدُّموع، ونشوء أدب البُكائيَّات عند كافَّة الشُّعوب بلا استثناء.

وهناك فرق واضح بين البُكاء والتَّباكي، والتَّباكي هو صِنْو الكذب والتظاهُر بدموع لا تعدو أن تكون كدموع التَّماسيح، كمن يتباكى على دكتاتور وجلَّاد، والمختلف تمامًا بمنهجه عن البكاء على ضياع وطن كفلسطين. ستبقى بُكائيَّات "ميسون حنّا" شاهدات نابضات بالحياة مُتابِعاتٍ لحقٍّ لا يموت.

ــــا 8\ 8\ 2024

_____________________________________________

[1] من كتاب (ست دمعات على نفس عربية) عبدالغفار مكاوي.

[2] المرجع السَّابق