ولد بول كارل فيرابند في فيينا عام 1924. وأدمن القراءة، وشغف بالمسرح والموسيقى والغناء، فضلا عن الفيزياء والفلك، قبل أن ينهي دراسته الثانوية عام 1942. بعدها رحل إلى ألمانيا حيث التحق بخدمة العمل الإجباري. خلال ذلك، تلقّى نبأ انتحار والدته المفجع، مما خلّف له ندوبا نفسية عميقة. وسرعان ما ترقى الجندي فيرابند إلى رتبة ضابط؛ إلا أنه أصيب برصاصة في عموده الفقري تسببت في إصابته بشلل حيث أصبح يمشي والعكاز لا يفارقه. شارك فيرابند بحماسة، وهو طالب، في برامج «دائرة كرافت» الوضعانية. واعتنق الإبستيمولوجيا «التفنيدية» البوبرية، ودافع عنها زمنا ضدّ النزعة اللاختبارية الاستقرائية؛ بل ترجم لبوبر كتابـ«المجتمع المفتوح وأعداؤه»، لكن سرعان ما انقلب ضده. كتب مقالا عام 1970 تحت عنوان «ضدّ المنهج»؛ واتفق مع صديقه إيمري لاكاتوس على تأليف كتاب مشترك بينهما تحت عنوان «مع المنهج وضد المنهج»، حيث يكتب لاكاتوس دفاعا عن العقلانية العلمية، بينما يكتب عنها فيرابند مهاجما ومبطلا. لكن رحيل لاكاتوس المفاجئ عام 1974 حال دون ذلك؛ فقرّر فيرابند نشر ما كتبه عام 1975. وهكذا صدر أهمّ أعماله تحت عنوان: «ضدّ المنهج»، خطة لنظرية فوضوية في المعرفة؛ ومنه تفرّغ لنقد البوبرية، ذات النفوذ الواسع في الحقل الإبستمولوجي.
نشرت لفيرابند نصوص أخرى لا تخلو من أهمية بالنسبة لدارسيه وقرائه؛ ونذكر منها: «العلم في المجتمع المفتوح»، 1978؛ و«أوراق فلسفية» في ثلاثة أجزاء، 99 - 1981 (الجزء الأوّل، نشر قبل ذلك، باللغة الألمانية)؛ «العلم من حيث هو فنّ»، 1984؛ «وداعا للعقل»، 1987؛ «ثلاث محاورات في المعرفة»، 1991؛ «قتل الوقت» 1995. وهو سيرته الذاتية التي كتبها قبل رحيله. أن فيرابند في تناوله النقدي للعقلانية قام بنقد يمكن أن نسميه بالتاريخ الجينيالوجي لهذا المفهوم. وأكد على انتمائه إلى العهد اليوناني وخاصة مع اكسانوفان وأفلاطون وأرسطو. إلا أن مهاجمة فيرابند ورفضه للعقلي لا يعني أنه يتبنى اللاعقلي، بل هو يعتقد أن العقلي واللاعقلي كلاهما مصطلحان ملتبسان. ولهذا فهو يرفض حتى الانتقادات التي وجهها التجريبيون والدوغمائيون للعقلانيين. وهكذا فإن الالتباس الذي يقره فيرابند بين العقلي واللاعقلي هو ما جعله يتحدث أحيانا عن نوع من «المناهج اللاعقلية»، معتقدا أنها تؤدي هي الأخرى إلى نجاح ملحوظ لا بالمعنى العقلي ولكن بالمعنى اللاعقلي.
إننا مع فيرابند، وهذا هو المثير في موقفه من العقلي واللاعقلي. فهو يوحد بينهما، وحينما يؤكد على تعليم السحر أو العلم، فهذا نابع من عمق تفكيره وتفتح فكره، لكونهما، سواء السحر أو العلم يخضعان لقواعد معينة يتم التسليم بها من طرف العقل ذاته. ويؤكد فيرابند على أنه من العبث أن نأمل في اختزال العلم إلى بعض القواعد المنهجية البسيطة، وذلك نظرا لتعقد تاريخه. فالفكرة القائلة في نظر فيرابند، بأن العلم يمكن وينبغي له أن ينتظم وفق قواعد ثابتة وشمولية، هي في آن واحد فكرة طوباوية وذات بريق خادع. وكل المناهج لها حدودها، والقاعدة الوحيدة التي تبقى وتحيا، هي «كل شيء جائز». هنا مكمن التصور الفوضوي الذي يعتنقه ويدعو إليه. وتعتبر النزعة النسبية من أهم تجلياته. يستعمل مفهوم النسبانية بدلالات مختلفة ومتباينة وأحيانا عبث، إلا أنه يتضح من خلال النظر في تطور العلوم والفنون والفلسفة، أن الغنى الفكري متلازم ومتناسب مع التعدد المذهبي، بحيث لا يمكن أن يتوفر التعدد إلا في جو ثقافي تتعايش فيه المذاهب والعقائد وتتلاقح بدرجة ما، من أجل الإبداع والابتكار. وهذه هي الخاصية الأساسية للعقلية العلمية. يقول فيرابند: «إن تنوع الآراء سمة ضرورية للمعرفة الموضوعية، والمنهج الذي يشجع التنوع هو كذلك المنهج الوحيد الذي يساير النظرة الإنسانية». وقد أشار فيرابند إلى كون مفهوم النسبانية غير محدد بشكل دقيق، بل هناك مقاربات كثيرة له تختلف باختلاف كيفيات استعماله.