هو الإمام أحمد بن محمد بن المهدي بن الحسين بن محمد المعروف بابن عجيبة، والمُكنّى بأبي عباس، الحسني نسباً، التطواني داراً، الفاسي تعلّماً، المالكي مذهباً، الشاذلي طريقة.. أي تلقّى العلم في مدينة فاس المغربية ودرج على المذهب المالكي، فإن له انتشاراً في المغرب العربي والأندلسي، ثم تصوّف على طريقة أبي الحسن الشاذلي؛ الإمام المعروف والمدفون بمصر..!
ولد من أبوين صالحين، كلاهما ينتسب إلى بيت النبوة، وإلى الحسن بن فاطمة بنت سيد الكونين على وجه الخصوص وعرف أجداده بالصلاح كذلك وبالعلم الديني، مما وفر لأبي العباس نشأة صالحة نقيّة، فحفظ القرآن في سن مبكرة، ورحل إلى مدينة القصر الكبير مجتهداً في تحصيل العلم، ثم إلى مدينة تطوان، وهي موئل العلم والحكمة وهو ابن العشرين، وأقبل على التحصيل في شتى فروع العلم كالفقه والتفسير والحديث واللغة والنحو والصرف والمنطق، مع حسن تحصيله وإقباله.
فإذا بلغ التاسعة والعشرين كان نجمه قد سطع وجلس للتدريس في مساجد تطوان ومدارسها، لكن رغبته في الزيادة كانت دافعة إلى الرحيل إلى فاس، ليتحقق ـ أي يبلغ مبلغ التحقيق في علوم العصر، لأن فاس كانت مركز العلماء الكبار في كل فن من فنون العلم ـ وتلقّى العلم بها عن أعلام كبار أمثال أبي عبدالله محمد التاود بن الطالب بن سودة المري ـ شيخ الإسلام في عصره، والذي أخذ عنه من علماء مصر الشيخ الدرديري والحافظ الزبيدي، بينما من أساتذته بمصر الشيخ العيدروس، وحسن الجبرتي وأبوالحسن العدوي وغيرهم..
وكذلك درس ابن عجيبة على الحافظ أبي عبدالله الطيب بن عبدالمجيد بن كيران، الحجة في التفسير في عصره، وكان يحضر درسه السلطان فمن دونه، وكان مدرّس التفسير في مسجد القرويين، وله حاشية على صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن النسائي وشرح ألفية العراقي في علم الحديث، وشرح حكم ابن عطاء الله وغير ذلك..
وتلقّى أيضاً ابن عجيبة عن العلامة أبي عبدالله محمد بن أحمد بن بنيس الفاسي، علم الفرائض والتسهيل لابن مالك وغير ذلك، وتلقّى أيضاً عن العلامة أبي عبدالله محمد بن علي الورزازي، الذي أخذ عنه تلخيص المفتاح في البيان وجمع الجوامع في الأصول، وحصل منه على إجازة مطلقة.
وبعد أن نال ابن عجيبة حظه الأوفر من العلوم العقلية والنقلية، وبرز فيها على علماء عصره، حبب إليه سلوك طريق التصوّف، وواكب في هذا الوقت ظهور حركة الشيخ الدرقاوي، مجدد الطريق الشاذلي في الألف الثاني، ووجد فيه ابن عجيبة شيخاً بحق جمع آداب الريادة، فاتصل بأحد تلامذته ومريديه الكبار وهو الشيخ محمد البوزيدي الغماري، وأخذ عنه الطريقة الدرقاوية الشاذلية، وألزم نفسه منهج التربية السلوكية كاملاً حتى فاضت بصدره بحار العرفان وأثمرت مجاهداته المخلصة؛ ألواناً باهرة من المعارف والفيوض النافعة الزاكية التي رفعت ذكره بين المريدين إلى يومنا هذا..!
ولقد ترك الإمام ابن عجيبة آثاراً علمية جيدة السبك رائقة الوصف في شتى العلوم كالتفسير والحديث والفقه واللغة، أما أكثر مؤلفاته ففي التصوّف، وربما تكون هي التي اشتهرت عنه بالمشرق، ففي التفسير تجد له: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، وهو التفسير الكامل، و قد نهج فيه نهج القشيري في لطائف الإشارات.
التفسير الكبير للفاتحة، ويقع في (268) صفحة، وقد صُنّف هذا التفسير قبل تصنيفه للبحر المديد كما هو واضح من كلامه، في آخر تفسير الفاتحة الكبير، حيث قال: (ويتلو إن شاء الله تفسير سورة البقرة)، ولكن ناسخ المخطوطة قال في تعقيبه: قد جعل صاحب هذا التفسير ـ رضي الله عنه ـ تفسيره هذا ـ أي التفسير الكبير للفاتحة ـ تفسيراً مستقلاً، ثم أنشأ تفسيراً آخر مختصراً، بنى عليه تفسيره (البحر المديد) ـ وقد انتهى نسخه في عام 1233 هجرية، على يد عبدالغفور بن التهامي.
والتفسير الوسيط للفاتحة: ذكرت المصادر أنه ـ أي هذا التفسير ـ يقع في 17 صفحة، وتوجد منه نسخة تحت رقم (148ك) خزانة الرباط، تم تحريرها سنة 1213 هجرية.
والدرر المتناثرة في توجيه القراءات المتواترة وهو تأليف ـ كما قال ابن عجيبة ـ يشتمل على آداب القراءة، والتعريف بالشيوخ العشرة ورواتهم، وتوجيه قراءة كل واحد منهم، وفيه عشرون كراسة.
والكشف والبيان في متشابه القرآن: قال عنه العلامة داود ـ الذي وقف على بعض أوراقه ـ إنه آخر تأليف كتبه ابن عجيبة ولذلك، لم يتمه.
هذا عدا ما ألّفه في الحديث والأذكار النبوية، وفي الفقه والعقائد وفي اللغة وفي التراجم العامة والخاصة، وفي التصوّف والتي نال بها شهرة عظمى خصوصاً كتابه الفذ (إيقاظ الهمم في شرح الحكم) وهو أشهر شروح حكم ابن عطاء الله، انتهى من تبييضه ثامن جمادى الأولى سنة 1211 هجرية، وقد طُبع أكثر من مرة في مصر وسوريا ومنها طبعة دار المعارف.
وقد سمعت ثناء الكثير من رجال الفكر والعلم والدعوة على هذا الشرح بنفسي أذكر منهم الأستاذ محمد الغزالي والدكتور حسن عباس زكي ومن قبلهم الإمام الباقوري، ولا أنسى الدكتور الأحمدي أبوالنور والدكتور أحمد عمر هاشم والدكتور أحمد عبدالرحيم السائح..!!
وكذلك كتاب (الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية) وهو شرح كبير لمنظومة ابن البنا السرقسطي، في آداب وقواعد الصوفية، فرغ من تبييضه أواسط رمضان سنة 1211 هجرية، وقد طُبع الكتاب أكثر من مرة، آخرها طبعة عالم الفكر 1983 ميلادية بتحقيق الأستاذ عبدالرحمن حسن محمود.
وهذا غير عشرات المدائح أو شروح المدائح والابتهالات، وهذا من أجود إنتاجه الصوفي واحتل مكان الصدارة في محيط الفكر الصوفي الملتزم والبريء من الشوائب والدخيل أو الفلسفات البعيدة عن روح الإسلام..!
أما تفسيره ـ الموسوم باسم ـ البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ـ فهو تفسير جامع لأصول التفسير بمعنى أنه فسّر القرآن بالقرآن، وإذا كانت القراءات يمكن الاستعانة بها لبيان المعنى ذكرها وإذا كان لأسباب النزول وجه في بيان الحكم أو المعنى ذكر علاقة سبب النزول بالحكم أو الحكم والمعنى بسبب النزول.
وإذا كان هناك من الآثار المسندة بيان أو تفسير للآية ذكر الأثر ومصدره، حتى لو كان رأياً أو فعلاً لصحابي من الصحابة الأجلاء فإنه يقدمه على الرأي والتخريج الاجتهادي، كما ينقل عن بعض المُفسّرين السابقين المعروف عنهم التفسير بالمأثور، بعض التفسيرات التي ألصقت بها إسرائيليات مثل ذكره قصة هاروت وماروت، ولكن نقله لها جاءت بنسبة قليلة، لا وزن لها بالنسبة إلى التفاسير الأخرى..!
واعتنى عناية خاصة باللغة والإعراب، فإذا كانت الآية تحتمل أوجهاً من الإعراب ذكرها، وذكر المعنى الذي يؤدي إليه كل وجه من وجوه الإعراب، وقد يتوسع أحياناً في الحديث عن مسألة من مسائل النحو والإعراب والاشتقاقات والتصريف وبيان المفردات؛ ويستشهد كثيراً بالشعر دونما ذكر لقائله غالباً.
وأما ذكر الأحكام والقضايا الفقهية، فكثيراً ما يذكر رأي الإمام مالك، أو مذهب المالكية، دون غيره، لأنه مالكي المذهب، وأحياناً يذكر غيره، اتباعاً لقوة الدليل والحجة.
واعتمد ابن عجيبة على مصادر ذكرها لتفسيره ـ البحر المديد ـ هي:
1ـ تفسير: أنوار التنزيل للإمام البيضاوي.
2ـ تفسير الكشف والبيان للثعلبي.
3ـ تفسير مدارك التنزيل لأبي البركات النسفي.
4ـ تفسير المحرر الوجيز للإمام ابن عطية.
5ـ تفسير التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الأندلسي.
6ـ تفسير إرشاد العقل السليم للعلامة أبي السعود.
7ـ حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي المسماة (نواهد الأبكار وشوارد الأفكار).
8 ـ حاشية أبي زيد الفاسي على تفسير الجلالين.
أما مصادره في الحديث فهي الكتب الستة المعتمدة عند أهل السُّنة وشروحها الموقرة.
ومصادره اللغوية فهي: الألفية، والكافية الشافية لابن مالك، والتسهيل لابن هشام، وكتب معاني القرآن، ككتاب معاني القرآن للغراء والزجاج، وأيضاً كتب المعاجم كالصحاح للجوهري؛ والأساس للزمخشري.
أما منهجه في التفسير فهو منهج القشيري رحمه الله، أي التفسير الإشاري؛ أي تأويل آيات القرآن بما يفهمون من مرادات بعيد عن المعاني المتبادرة إلى الأذهان تبعاً لظاهر الألفاظ ولكنها غير مقطوعة الصلة بالظاهر. ونقول منهج القشيري رغم أن القشيري ليس أول من وضع في التفسير الإشاري، ولكنه أول من سلم بمنهجه وطريقته من الزيغ والضلال والانحراف، ومعلوم أن المعارف بكتاب الله عز وجل لا تتناهى ولن يستطيع بشرٌ مهما أوتي من علم أن يستخرج كل ما فيه من أسرار وإلهامات، لأنه وحي الله وكلماته، وصدق ربنا وتنزّه عن إحاطة أحد بكلماته:
(ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله..)، فجاء تفسيره (البحر المديد) تفسيراً حافلاً يجمع النقل والسماع على أصول المُفسّرين الظاهريين، إلى أبواب الفهم والاستنباط والاستلهام واستنزال الحكمة بفيض من الله وفضل، لا يقل عما ساقه من قبله القشيري والشيرازي والغزالي وابن عباد في إشاراتهم وإنما كان له نصيبه من الابتكار فأتى بالجديد الرائق..!
كما ضمنه كثيراً من المنظوم والمنثور الصوفي لكبار وأئمة الصوفية أمثال البسطامي والجنيد والقشيري والشاذلي والمرسي والسكندري وابن زروق والدرقاوي والبوزيدي وابن الفارض والجيلي والششتري، حتى أن من يريد التعرّف على التصوّف المعتدل فليطلع على هذا التفسير ليجد ذلك مبثوثاً بين جوانحه، فيضفي على التفسير روحاً شفافة تقرّبه من القلب وتطبع على الوجدان نسمات لطيفة فجزاه الله خيراً. وشكر الله لمن طبعه.